من المقطوع به يقينًا في الفهم الإسلامي الصحيح أن قيمة (العدل) قيمةٌ إنسانيةٌ عُليا، ذاتُ شأنٍ رفيع، نفهم ذلك من قوله تعالى ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25) وقوله سبحانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(﴾ (المائدة).
وعلى هذا الفهم نرى أن مقتضَى الإيمانِ الكاملِ برسالة الإسلام العظيم يحتِّم أن تكون (قاعدة العدل) هي أساس التنظيم لشأن المجتمع، وأنَّ توفير هذه القاعدة هو أهم هدف للدولة التي تقوم على رعاية شئون هذا المجتمع.
وقيمة العدل في الفهم الصحيح للإسلام كما نؤمن به قيمةٌ مطلقةٌ؛ لأنها ببساطة شديدة تتولَّد من أهم قيمة جاء بها الإسلام وهي قيمة التوحيد التي تقطع بأن البشر كلهم متساوون وليس لأحد على أحد ميزة ولا فضل.
والبشر كلهم لهم حق التكريم باعتبارات الآدمية، وتقواهم لخالقهم تزيد من هذه الكرامة فيما بين الإنسان وخالقه ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13) وليس لأحد أن يطلب الكرامة عند الناس لكونه تقيًّا!!
وقيمة التوحيد فهمًا وتطبيقًا أن لا يتخذ البشر بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله صراحةً أو ضمنًا، اسمًا أو فعلاً، فتوحيد الله هو العدل والحرية والمساواة، والخالق وحده هو الذى ليس كمثله شيءٌ ولم يكن له كفوًا أحد، والبشر كلهم سواسيةٌ من حيث المَيزة الروحية التي فيهم ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ (السجدة: 9).
والحقيقة أن معطيات العدل في التطبيق الإسلامي تكاد تكون حاضرةً في كل أشكال هذا التطبيق، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا.. ففي أول خطاب سياسي من الحاكم إلى الأمة بعد وفاة الرسول وانقطاع الوحي وبداية تنظيم الناس لأنفسهم- مجتمعًا ودولةً- نسمع الحاكم يؤسِّس لشرعية الدولة الجديدة بقوله: "إن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له"، وهي الكلمات الأولى في أول خطاب سياسي من الحاكم للشعب في المجتمع المسلم.
كلمات الحاكم الثاني في تلك الفترة الراشدة المؤسسة للفهم الصحيح لمعنى (الدولة) في الإسلام محفورةٌ على جدران الحضارة الإنسانية "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!".
لذلك فأنا كإنسان وكمسلم يدين لله وحده بالربوبية والألوهية أرى أن الدولة النموذج والمثال- التي يجب أن تتحقق وتكون- هي (دولة العدل).. الدولة التي تتوازن فيها السلطات، وتتوزع بالعدل والتساوي بين هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية، وهذا هو فهمي للآية الكريمة ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: من الآية 25).
دولة العدل هي التي يتناوب فيها الناسُ على الأمور التنفيذية وفق إجراءاتٍ وفتراتٍ محددة بعد ما ثبت بالبرهان والتجربة الأضرار المروِّعة لطول البقاء في المناصب، وحرمان الأجهزة التنفيذية من التنوع الإنساني الخلاَّق الذي يمنح الأداء والممارسة حيويةً وتجديدًا وإبداعًا من خلال التراكم والمراجعة والتجديد، فكل إنسان له روحه الخاصة التي يضفي بها أداءً خاصًّا، مسترشدًا بتجارب من سبقه، ومضيفًا لمستَه الخاصة التي تزيد الأداء روعةً واكتمالاً.
دولة العدل هي التي يُردُّ فيها المال إلى الفقراء من الأغنياء؛ شكرًا للخالق، وتزكيةً للمخلوق، وحتى لا يكون المال دولةً بين الأغنياء فقط فتتراكم الثروات متجسدةً في رأسمالية شرسة، تحكم وتتحكَّم وتؤسس لنفسها جماعات مصالح، تتلاعب بمقدَّرات المجتمع وتضغط على الدولة لخدمتها وخدمة مصالحها، ولعل كتابات الشهيد سيد قطب في التطبيق الإسلامي للعدل الاجتماعي من الآراء الريادية العظيمة في هذا الشأن.
(دولة العدل) هي التي يكون الناس تحت حكمها سواءً، تجمعهم أخوَّة الدين وأخوَّة الوطن بكل ما تحمله أخلاقيات الأخوَّة على المستويين من حقوق وواجبات، لا فرق فيها بين الناس على أساس من دين أو مذهب أو لون أو عشيرة.
ما أردتُّ توضيحَه من خلال هذه المقالة هو أن الأمور بمقاصدها وغاياتها، أقول هذا لأُشير إلى الجدل السقيم حول مصطلحات الدول المدنية والدول الدينية والدول العسكرية، وتلك التصنيفات التي لا تنتهي، ونغفل عن جوهر الموضوع فيما يتعلق بأحقِّ حقٍّ لكل البشر، ألا وهو (العدل)، على إطلاقه في الفهم، وعلى شموله في التطبيق.
------------
* عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين.