دخل الزوج بيته بعد انتهاء يوم عمل شاق فوجد زوجته قد تفنَّنت في استقباله، لقد انتهت من إعداد طعام شهي للغذاء، وحرصت على الانتهاء من ذلك قبل قدوم زوجها بوقت كافٍ، مكَّنها من حسن التزين لزوجها، ونسيان معاناتها في أثناء طهي الطعام؛ حيث ضمدت الجرح الذي أصاب إصبعها بسبب استخدام السكين في تقطيع الخضراوات، وكفكفت دموعها التي سكبتها بتأثير البصل المفروم، ثم تجمَّلت وتزيَّنت استعدادًا لاستقبال محبوبها وزوجها، بيد أن الزوج دخل البيت واجمًا وقد رسم على جبهته الرقم 111 المعبِّر عن العبوس والكدر، ولم يكلف نفسه مجرد النظر إلى وجه زوجته، وبخل بكلمات الثناء والشكر والإطراء فلم ينطق ببنت شفة.
تلقَّت الزوجة صنيع زوجها بصبر رغم ما أصابها من إحباط ودخلت المطبخ فجهزت طعام الغداء ووضعته على المائدة، ودخلت بلطف تدعوه إلى الجلوس على مائدة الطعام بعد أن ساعدته على خلع ملابسه لكن عبَّاسًا (أقصد الصفة هنا وهي العبوس) لا يزال عبَّاسًا لم يبتسم في وجهها ولم يشكرها على صنيعها بل ظل عابسًا في وجهها مقطب الجبين، وقد رُسِمَ على وجهه الضيق والكدر.
لم يلتفت عباس إلى زوجته، ولم يأبه بالشموع الحمراء التي أوقدتها حبيبتُه على مائدة الطعام وقد أحاطتها بالورد الأحمر المعبِّر عن الحب، والورد الأصفر المعبِّر عن الغيرة، والورد الأبيض المعبِّر عن الصفاء، كما حرصت على أن تزيِّن بها بقية البيت، في مشهد رومانسي حالم وجوٍّ من الحب الصافي، ولكن يبدو أن عباسًا لا يفهم طبيعة المرأة ولا يفقه لغة الشموع والورد ولا يعترف بالرومانسية، بل يعاني أميةً طاحنةً في فقه الثناء على الزوجة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
جلس الزوجان على مائدة الطعام، وتفاعل الزوج مع الطعام تفاعلاً قويًّا، ومضى يلتهم قطع اللحم المشوية وتلك الأخرى المحمَّرة، وتطيش يده يمينًا ويسارًا في صولات وجولات بين أطباق المائدة، ذلك كله يحدث وهو صامت لم يتكلم ولم يكلِّف نفسه كلمة شكر لزوجته ولا كلمة ثناء على حسن طهوِها للطعام، وهي التي يشهد لها الجميع بذلك إلا زوجها المستفيد الأول من هذه المهارات.
فكَّرت الزوجة فيما يحدث، فظنَّت أنها لم توفَّق في اختيار الملابس التي تجذب زوجها فدخلت غرفة الملابس، ولبست فستانًا كانت تلبسه لزوجها أيام خطوبتها لتجدِّد به ذكريات الحب والغرام ولحظات الشوق والهيام، ثم سألت زوجها: ما رأيك في الفستان؟ هل تذكره؟ فردَّ في نبرات حادَّة حازمة تصبغها الحدة: نعم، نعم، أذكره لقد اشتريناه بعد الزواج بسنين.. لقد تغيَّر لونه كثيرًا، ولم يعُد يليق بك.. لقد كنت تلبسينه منذ سبع سنين، أما الآن فقد كبرت وتقدمت بك السن، ويجب أن تلبسي الآن ما يليق بـ"سنِّك".
تغيَّر وجه الزوجة وتكدَّر، ولسان حالها يقول: ليتني لم ألبس هذا الفستان! لقد لبسته ليذكِّر زوجي بالأيام الجميلة التي خلت، لكن النتيجة جاءت على عكس ما كنت أتمنى، إذًا فلأفكر في وسيلة أخرى أجذب بها زوجي وألفت انتباهه إليّ، عسى أن أنجح في تهيئة جوِّ الحب الذي أريد.
بعد تفكير عميق اقتربت الزوجة من زوجها في حنوٍّ ورفق ولطف، ونادته من قرب: حبيب عمري.. ما رأيك في الشموع والورد؟ أليست جميلة؟ فردَّ الزوج قائلاً: لا أدري.. لِمَ تُجلسينا في الظلام والكهرباء متوافرة في بيتنا؟ ما هذه التفاهات؟ ألسنا كبارًا على ما تصنعينه؟ هذا سلوك المراهقين ويُفترض بنا أننا نضجنا.. اعقلي يا بنت الناس وكوني واقعية!.
يا لصبر هذه الزوجة! إنها لم تيأس، تقول: لقد واصلت تفكيري حرصًا على زوجي ورغبةً مني في إيجاد بيئة زوجية يملؤها الحب وتغطيها السكينة والسعادة، فقلت: أعود مرة ثانية وأسأله عن رأيه في الطعام، فسألته: ما رأيك في السلَطة؟ فأجابها: ينقُصُها بعض الكرفس، وما رأيك في الشوربة؟ فأجاب: كانت تحتاج إلى سخونة بعض الشيء، وما رأيك في المحشي؟ فقال: نعم.. لقد تنوَّع، لكنك نسيت أن تصنعي محشي الكوسة، وما رأيك في الأرز؟ قال: كان ينقصه بعض الملح، وما رأيك في اللحم المشوي؟ فأجاب لو كنت أكثرت من الأرز لكان أشهى.
تقول الزوجة: شعرت بالإحباط يحاصرني من جميع الأرجاء، وأحسست به يتسرَّب إلى نفسي فاستعذت بربي من الشيطان، ودَّعت زوجي وقلت له: تصبح على خير، ودخلت لأنام بعد عناء طويل في يوم عمل شاقّ؛ كي استعد لأستقبل عناءً جديدًا في يوم لاحق.
دخلت لأنام وأنا أردِّد في نفسي: في فترة الخطوبة كان يمتدحني كثيرًا ويثني عليّ، وآنذاك كنت أطالبه بأن يقلل من ثنائه عليّ ولا يبالغ، أما الآن فإني أجاهد نفسي وأصنع كل ما في طاقتي لأقتنص منه كلمة إطراء أو تعبير ثناءً على فستان، أو زينة، أو طبخة فلا أجد ومن ثمَّ لا أملك إلا أن أقول إلى الله المشتكى.