الحياة العصرية بكل ما فيها من ضغوطات ومشاكل، وحالات اقتصادية متردية، أفرزت شخصيات مضطربة، مُتقلبة المزاج، تُثار من أقل الأشياء، وتتعصب لأتفه الأسباب، وتغضب بلا ضابط ولا وعي من أصغر الأخطاء.
ولقد صادفت وأنا أكتب في هذا الموضوع أن طالعتنا الجرائد ونقلت إلينا الفضائيات حادثة القتل التي وقعت أثناء التشاجر على خلفية أزمة الخبز التي وقعت في مصر.. لماذا؟ لأن شخصًا أخذ مكان غيره في الصف بالقوة!!
تخيل معي نفسًا تُزهق وأسرة تُشرَّد لأن شخصًا لم يتحكم في نفسه في وقت غضبه، فيدفعه ذلك الغضب إلى ارتكاب جريمة من أعظم الجرائم وأخطرها، بل هي من أكبر الكبائر، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَوْلُ الزُّورِ، أَوْ قَالَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ" (رواه البخاري).
فالحلم هو الأناة وضبط النفس عند الغضب.
لماذا الحلم وكظم الغيظ من أخلاق الكبار؟
لأن الحلم وكظم الغيظ يحتاج إلى قوة نفسية كبيرة تمنع صاحبها من الانتقام والتشفي، وتقوده إلى التروي والحكمة قبل اتخاذ القرار.
ولأن الحلم وكظم الغيظ يعني الصبر على من ظلم، والعفو عمن أخطأ، وهي أيضًا تحتاج إلى قوة نفسية كبيرة تجعل الأمر هينًا على النفس.
ولأن الحلم وكظم الغيظ ضد طبيعة البشر التي جُبلت نفوسهم على حب الذات وعدم قبول الظلم أو الرضا به من أي شخص كان.
ولأن الحلم وكظم الغيظ يعني الارتقاء، والسمو النفسي الذي يعكس تحكم الشخص في نفسه، وتحليه بالهدوء والسكينة، وبُعده عنه ردود الفعل السريعة.
إيمان بالله:
والكبار بإيمانهم الذي رسخ في قلوبهم يستطيعون التحكم في أنفسهم، ودفع رغبات النفس في الغضب والانتقام؛ ذلك أن إيمانهم بالله جعلهم يوقنون بأن كل يُصيب الإنسان من أذى أو ما يعتريه من ظلم إنما لحكمة أرادها الله تعالى؛ فالمؤمن إذا ابتلي صبر على ما أصابه الله به فلم يغضب ولم يتضجر، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (صحيح الجامع).
تفسير آية:
يقول تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 134).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾: فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ؛ يَعْنِي فِي حَالِ قِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ.
وَقِيلَ: فِي حَالِ السُّرُورِ وَالْغَمِّ لا يَقْطَعُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ؛ فَمَدَحَ الْمُنْفِقِينَ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ، فَمَدَحَ مَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَعَفَا عَمَّنْ اجْتَرَمَ إلَيْهِ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَنْ خَافَ اللهَ لَمْ يَشْفِ غَيْظَهُ، وَمَنْ اتَّقَى اللهَ لَمْ يَصْنَعْ مَا يُرِيدُ، وَلَوْلا يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَكَانَ غَيْرَ مَا تَرَوْنَ".
وَكَظْمُ الْغَيْظِ وَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِمَا، مَوْعُودٌ بِالثَّوَابِ عَلَيْهِمَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى.
مكارم الأخلاق:
الحلم وكظم الغيظ يأتيان في مقدمة مكارم الأخلاق وأفضلها، والتي يجب أن يتصف بها المسلم؛ لما يترتب عليهما من خير كثير، وتحقيق الأمن الاجتماعي بين الناس، وصفاء العلاقات ومتانتها، رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ الْهِلالِيُّ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ.. إنِّي أَتَيْتُك بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).
وَرَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ: "يَا جِبْرِيلُ.. مَا هَذَا؟" قَالَ: لا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ، ثُمَّ عَادَ جِبْرِيلُ، وَقَالَ: "يَا مُحَمَّدُ.. إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".
كن كأبي ضمضم:
البعض اليوم تثور ثورتهم، وتنتفخ أوداجهم، ويُقيمون الدنيا ولا يُقعدونها، ويسعون إلى الانتقام والتشفي متى سمعوا أن شخصًا سبَّهم، أو أخطأ في حقهم، وقد يعتدون بأكثر مما أُعتدي عليهم بسبب الغضب الذي يلازمهم.
أما الكبار فإنهم يتروون ويتعقلون في ردود أفعالهم؛ فلا يُسارعون إلى الانتقام، ولا يسعون إلى رد الإساءة بمثلها، بل يجعلون الأولوية للمسامحة والعفو، والصلح والتفاهم.
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم؟- أو ضمضم، شك ابن عبيد- كان إذا أصبح قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك" (سنن أبي داود).
محبة الله:
الكبار بحلمهم على غيرهم، وصبرهم على الأذى، ورفضهم مقابلة الإساءة بالإساءة، وإيثارهم العفو على الانتقام؛ ينالون أعلى الدرجات، ويحظون بأشرف المقامات، وهي محبة الله تعالى لهم، رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْحَلِيمَ الْحَيِيَّ، وَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ".
نماذج مُضيئة:
للكبار مواقفهم التي لا تُنسى، وأقوالهم التي يجب أن تُدرس، وأفعالهم التي تُمثل قدوةً لكل من يبحث عن قدوة، وفي خلق الحلم وكظم الغيظ نماذج مُبهرة؛ قلما تجد مثلها في عالم الناس، وفي مقدمة هؤلاء يأتي:
أبو الدرداء:
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ أَسْمَعَهُ كَلامًا: يَا هَذَا.. لا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا، وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا؛ فَإِنَّا لا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ.
الشعبي:
وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ: إنْ كُنْتُ مَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللهُ لِي، وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللهُ لَك.
عائشة رضي الله عنها:
وَاغْتَاظَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَلَى خَادِمٍ لَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: للهِ دَرُّ التَّقْوَى، مَا تَرَكَتْ لِذِي غَيْظٍ شِفَاءً.
معاوية:
وَقَسَّمَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قِطَافًا، فَأَعْطَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ قَطِيفَةً فَلَمْ تُعْجِبْهُ، فَحَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ بِهَا رَأْسَ مُعَاوِيَةَ، فَأَتَاهُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: أَوْفِ بِنَذْرِك، وَلْيَرْفُقْ الشَّيْخُ بِالشَّيْخِ.
من أسماء الله:
الحليم اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه ذو الصفح والأناة الذي لا يُعجِّل بالعقوبة مع القدرة، فتخيل معي أخي القارئ إلهًا عظيمًا خالقَ الأرض والسماء، وبيده ملكوت كل شيء، يحتاج إليه العبد في كل حركة وفي كل سكْنة، إلهًا خالقًا رازقًا، واهبًا مُعطيًا، مُنعمًا قادرًا، قادرًا أن يسحب نعمته من عبده متى شاء، قادرًا أن يُعجِّل بالعقوبة متى فُعِل الذنب؛ يشاهد العابدين، ويرى العاصين، ولكنه يسامحهم، ويتجاوز عن أفعالهم، يمنحهم الفرصة تلو الفرصة؛ لعلهم يتوبون أو يرجعون ﴿إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (آل عمران: من الآية 155).
تخيل:
تخيل معي شخصًا أحسنت إليه، وأعطيته من نُصحك وتوجيهك، وأقرضته من مالك، ومنحته من خبراتك، حتى إذا اشتد عوده وقويَ ساعده تمرد عليك، وخرج عن طوعك، ولم يَرْعَ لك فضلاً، ولم يعترف لك بنعمة، بل جاهر بعداوتك، وأظهر عصيانه، وأنكر فضلك.
كيف ستكون حالتك؟! وكيف سيكون غضبك؟! ولله المثل الأعلى؛ فالله قد أنعم على الإنسان بأجهزةٍ في جسمه تعمل دون توقف لو شاء لأوقفها، ومنحه يدَيْن ورجلين يقضي بهما حوائجه لو شاء لشلَّ حركتهما، ومنحه عينًا ولسانًا وأذنًا ينظر ويسمع ويتعامل بها مع الآخرين، ولو شاء لأوقف عملها، ومع ذلك يتجرَّأ العبد ويعصي ربه، ويُنكر فضله بسلوكه وفعله، وحلم الله يسعه ويستوعبه؛ فلم يغضب- سبحانه- فيمنع عنه فضله، وصدق الله حين يقول: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ (النحل: من الآية 61).
القرآن يوجه:
الكبار متى خُيِّروا بين الحلم وكظم الغيظ وغيره اختاروا الحلم بنفس راضية، وقلب راضٍ مطمئن، وهذا لا ينفي وقوع الكبار أحيانًا- في لحظات الضعف البشري- في حالةٍ من الضيق والغيظ، وأحيانًا ما يتخذون قرارات متسرعة في تلك اللحظات، ولكنهم سرعان ما ينتبهون فيعودون إلى رشدهم، ويلتزمون الحق متى ظهر لهم، ويُبادرون إلى الحلم والعفو متى لاح في الأفق.
وسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم قد انتابه بعضٌ من الغضب عندما بلغه ما فعلته هند بنت عتبة بحمزة بن عبد المطلب من تمثيل بجثته، عن أبي هريرة قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على حمزة فرآه صريعًا، فلم ير شيئًا كان أوجع لقلبه منه، وقال: "والله.. لأقتِّلنَّ بك سبعين منهم"، فنزلت ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (النحل: 126)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نصبر يا رب".